نبيل فياض

مقالات مميزة

أهلا بكم في موقع الدكتور نبيل فياض

الديانة اليهوديّة: جماعة إعادة البناء

 COURTESY OF RRC

إعادة البناء، أحدث الحركات الدينيّة الرئيسة في اليهوديّة المعاصرة، هي الحركة الدينيّة اليهوديّة الوحيدة التي تأخذ من الولايات المتحدة وطناً لها. وتظلّ أيديولوجيتها صنيعة مؤسسها ومنظّرها، مردخاي كابلان ( 1881-1983 )؛ ويمكن اختصار أهدافها الأيديولوجيّة على النحو التالي: تثمين العناصر الموحّدة في الماضي اليهودي؛ استياء نقدي من ردود الفعل العرفيّة والأيديولوجيّة الحاليّة على الوضع اليهودي ما بعد التقليدي؛ وتصميم فاعل على تقدّم اليهوديّة عبر خطط واعية ومدروسة. وهكذا، يمكن اعتبار ظهور أيديولوجيا إعادة البناء والحركة ذاتها كردة فعل على ظهور الحركات اليهوديّة الدينيّة الأخرى في الولايات المتحدة.

 تأسيس الحركة:

في كانون الثاني عام 1922، أسس كابلان في نيويورك " الجمعيّة من أجل تقدّم اليهوديّة "، والتي عملت ككنيس ومركز ومقر لاجتماعات الحاخاميم، المثقفين، والعلمانيين المتعاطفين مع فلسفة كابلان في اليهوديّة. وعام 1935 ظهرت المجلّة الهامة، " إعادة البناء "، وذلك بمساهمة فاعلة من أقرب أصدقاء كابلان إليه، أي إيوجين كوهين وميلتون ستاينبرغ وايرا أينستاين، وكانوا جميعاً حاخاميم تمت رسامتهم في معهد اللاهوت اليهودي التابع لحركة المحافظين، مثلما كان كابلان ذاته. وقد وضع عمل كابلان الضخم، " اليهوديّة كحضارة "، المنشور عام 1934، إطار فهم جماعة إعادة البناء للبنيان المعرفي، اللاهوت، والطقوس في اليهوديّة.

ظل كابلان منتسباً إلى الحركة المحافظة، أقوى الحركات تقريباً في اليهوديّة الأمريكيّة اليوم، لكن اختلافاته اللاهوتيّة عن المحافظين قادته أخيراً إلى تحويل إعادة البناء من مدرسة فكريّة إلى حركة رابعة دينيّة. وايرا أينستاين، التي تولّت قيادة مؤسسة إعادة البناء عام 1959، وأسست كليّة إعادة البناء الحاخاميّة، عام 1968، كانت القوة المحرضّة الكامنة خلف هذا التحوّل، الذي أسفر عن ولادة طائفة يهوديّة جديدة.

 

اليهوديّة كحضارة دينية ارتقائية:

لقد دافعت براغماتيّة كابلان الاجتماعيّة عن حق أي شعب في استعمال ذكائه المميّز في التكيّف مع تبدل الظروف المواجهة. والشعب اليهودي، الذي هو عضويّة حيّة، تستوجب إرادته بالعيش وتحقيقه لذاته تبدّلات لاهوتيّة وتلك المتعلقة بالأعراف، والتي هي عمليّة مميزة لليهوديّة، وفق تعريف كابلان للديانة، باعتبارها حضارة دينيّة متطوّرة لعضويّة حيّة، هي الشعب اليهودي. لقد كانت فرضيّات كابلان اللاهوتيّة والاجتماعيّة المتجذّرة في رحم الشعب اليهودي ملبيّة حاجاته وتطلعاته. يرى كابلان، أن ليس هنالك تناقضاً في التأكيد على أن الاستمراريّة تستوجب التبدلات. الجديد ليس أقل قدسية من القديم، وإجلال الابتداع الخلاّق لا يعبّر عن تقوى أقل في إجلال الماضي. كانت نزعة كابلان الاجتماعيّة تحمل غرضاً براغماتيّاً. ووضع تحليله الوصفي للوضع اليهودية كدين وشعب أرضيّة برنامج إعادة البناء.

التبدّل والاستمراريّة:

يُظهر المثل الذي يستخدمه كابلان، واسع الانتشار، والذي يقول، " إنه للماضي حق التصويت لكن ليس له حق الفيتو "، إصرار الرجل على أن الحقبة الحاليّة تستدعي خيارات واعية في إعادة إحياء اليهوديّة وتمثّلاً انتقائيّاً لعناصر من المذهب الطبيعي، المذهب الإنساني، والمذهب التعدّدي والتي تدفع الحياة اليهوديّة إلى الأمام. إن الربط الخلاّق بين قيم التقليد وقيم الحداثة تستدعي إعادة-بناء أعراف يهوديّة وإعادة بناء من ثم لتعابيرها الليتورجيّة، الطقسيّة، واللاهوتيّة. كسياسي وأيديولوجي متديّن، كان كابلان واعياً للحاجة إلى البناء والاستقرار. وهكذا، فقد عرّف " مقدسات " اليهود على أنها تلك العناصر الثابتة التي يشترك بها اليهود، مع أنهم قد يفسّرونها بشكل مختلف: أي ما هو مقدّس من أبطال، حوادث، وأيام تحمل ذكرى معينة وتعمل كعناصر توحيديّة في اليهوديّة. وتؤكّد إعادة البناء عند كابلان على الكفاح من أجل الحفاظ على الاستمراريّة والتبدّل في مجتمع تعددي.

لم تحظ إعادة البناء باهتمام شعبي واسع بسبب نشر كابلان لأعماله الاجتماعيّة واللاهوتيّة؛ لكن الجماهير تابعتها، على الأرجح، من خلال نصين ليتورجيين للحركة. العمل الأول كان " الهاغاداه الجديدة " ( 1941 )، الذي حرّره كابلان، إيوجين كوهين وإيرا أينستاين، والذي حاول أن يدمج بين المعاني التقليديّة والمعاصرة للديمقراطيّة والحريّة. لكن نشر كتاب " صلاة يوم السبت لإعادة البناء " عام 1945، الذي حرّره كابلان وكوهن بمساعدة أينستاين وميلتون ستاينبرغ، قاد إلى شجب العمل على الملأ من قبل  إتحاد الحاخاميم الأرثوذكس، وفي اجتماع خاص في تلك السنة في نيويورك، صوّت 200 عنصر من الاتحاد الأرثوذكسي اليهودي بالإجماع على إصدار " חרם – حرم "، أي وثيقة حرمان ديني، بحق كابلان. وهكذا، وضعت نسخة من " كتاب الصلاة الهرطوقي الجديد " – كما أسموا كتاب كابلان – على طاولة المتكلمين، ثم قام جوزف رالباغ، حاخام أبرشية أُحب شالوم في نيويورك لاحقاً، بإحراقه.

صدق كابلان وشجاعته

لقد حاول كابلان التعبير ليتورجياً عما أحس أن اليهود يؤمنون به بينهم وبين أنفسهم. الله واحد، لكن الأفكار عن الله كثيرة. من هنا، ثمة طرق كثيرة للتعبير عن علاقة الإنسان بالله في الصلاة. بل إن كانت الصلاة شعراً، برأيه، فالشعر هو موئل الإيمان.

وكما قال محررو كتاب الصلاة لجماعة إعادة البناء، فقد كان عليه أن يظهر " الشجاعة والإجلال " من أجل تعديل تلك الأفكار أو الصلوات غير المقبولة من مشاعر الناس العاديين لا أخلاقيّاً ولا فكريّاً. وهكذا، حلّت الصلوات التي تمتدح فردانيّة يهوه-الإله محل تلك التي تحكي عن الاختيار الإلهي الحصري للشعب اليهودي؛ كما حذفت الإشارات إلى إعادة بناء الهيكل والقرابين الحيوانيّة فيه، إلى جانب شطب الصلوات الممتدحة لقيامة الموتى جسديّاً وثواب الإله وعقابه لإسرائيل بمنح المطر أو حبسه عنها. أما الصلوات التمييزية ضد النساء والعبيد وغير اليهود فقد حلّ محلها تأكيد إيجابي على الحريّة وعلى الاحتفال بوجود الصورة الإلهيّة في كل بني البشر.

كان أكثر ما أثار الانتقاد هو رفض جماعة إعادة البناء للمعنى الحرفي لاختيار الإله للشعب اليهودي. فقد ارتأى كابلان أن فكرة الاختيار الإلهي قابلة للتفسير على أنها اعتقاد تعويضي على إحساس الشعب اليهودي بالعزلة والاضطهاد. لكن الحق المقصور على جماعة يطرح تساؤلات ليس فقط حول طبيعة الإله الذي يختار ويرفض بل أيضاً حول مدى أخلاقيّة المحاباة الإلهيّة، التي تميل إلى صب الزيت على نار الخلاف بين الأديان الشقيقة، التي يدعي كل منها التفوق على ما عداه. كذلك هنا، فقد استبدل كابلان فكرة الإله الذي يختار شعباً بعينه بفكرة " النداء الإلهي "، أي الدعوة إلى عبادة الإله التي تطالب بها الحضارات الدينيّة. وبحسب مفهوم كابلان للخلاص، ما من شعب مستثنى من عبادة الإله. 

التطورات اللاحقة في الحركة:

عام 1963، ومع قرب تقاعد كابلان من المعهد اللاهوتي الأمريكي حيث كان يدرّس منذ عام 1909 وتردّد المعهد في تعيين خليفة إعادة-بنائي له، واجه كابلان ضغوطاً متزايدة من أجل جعل إعادة البناء عرفاً. فقد كان كابلان يرفض طيلة أيام عمله محاولات جعل إعادة البناء حركة دينيّة رابعة. وكان يحذّر السلطات الدينيّة من خطر الطائفيّة. كذلك فقد ارتأى أنه على إعادة البناء التسامي على خصوصية العرف بحيث لا تودي بالحياة اليهوديّة إلى مزيد من التمزّق. وحين تم تشكيل إتحاد أبرشيّات جماعة إعادة البناء عام 1955، أصر كابلان على أن الأبرشيّات المتحدة ستحافظ على وجودها ضمن اتحاد الأبرشيّات العبريّة ( الجماعة الرئيسة في الحركة الإصلاحيّة ) أو ضمن الكنيس المتحد ( الذي يوحد الأبرشيّات المحافظة ). مع ذلك، بحلول عام 1968، بظهور اتحاد إعادة البناء للأبرشيّات، تحولّت الشخصية المتسامية للحركة إلى جناح آخر لليهوديّة الأمريكيّة. وتحت القيادة القويّة لأيرا أينستاين، تم تأسيس كليّة إعادة البناء الحاخاميّة في العام ذاته. في تلك الكليّة، التي كانت أينستاين أول رئيسة لها، كان يقبل الرجال والنساء في برنامج دراسي يستمرّ سنوات خمس. أما منهج الدراسة في الكليّة، الذي يتضمن دراسة مفهوم كابلان عن اليهودية كحضارة دينيّة إرتقائيّة، فهو مقسّم إلى التعلم في الفترات الرئيسة الخمس للحضارة اليهوديّة: أي، التوراتيّة، الحاخاميّة، الاوسيطة، الحديثة والمعاصرة. عام 1982، خلفت أيرا سيلفرمان أيرا أينستاين في رئاسة الكليّة. في العام ذاته، أعيد بناء الاتحاد ليصبح اتحاد أبرشيّات إعادة البناء؛ وبعد ثلاث سنوات، صار عدد الجماعات المنتمية إليه أكثر من خمسين. أما مجلة " إعادة البناء "، فقد تم تجديدها عام 1983 تحت إشراف جاكوب شتاوب. وبعد سنوات عشر، صار عدد أعضاء الاتحاد الحاخامي لإعادة البناء، المؤسّس عام 1975، ما يقارب المئة. وعام 1980، وضع الاتحاد لأول مرة في التاريخ اليهودي إجراء طلاق يهودي يساوي بين الطرفين.

أهم أعمال كابلان:

Judaism without Supernaturalism, 1958

Judaism as Civilization, 1934

The Meaning of God in Modern Jewish Religion, 1937

Who's Online

192 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

اشترك بالنشرة البريدية

أنت هنا: Home أبحاث الديانة اليهوديّة: جماعة إعادة البناء