أهلا بكم في موقع الدكتور نبيل فياض
فشل جزئي: نهاية الثقافة في سوريا!
- تم إنشاءه بتاريخ 17 كانون1/ديسمبر 2015
بين عامي 2000 و 2004 حاولت، مع الدكتور اللواء فؤاد ناصيف، إنشاء مركز بحثي في دمشق يُعنى بمسألة معينة هي العلاقة بين مراكز البحوث في الولايات المتحدة، ونظيراتها في إسرائيل. وقمنا بالفعل بإعداد ملفّات هامة – ما يزال معظمها موجوداً عند الصديق المثقّف – عن أهم الباحثين السياسيين والعسكريين بين الدولتين. كان الدكتور فؤاد وقتها رئيس الفرع 225 أمن عسكري؛ وكنت أدخل هذا الفرع بالمفتاح الموجود على بابه دائماً، بغض النظر عن وجود رئيس الفرع أم لا.
فكّر الدكتور فؤاد بتطوير الموضوع على أساس أنه جوهري وأساسي من اجل فهم "علمي" لما يحصل حولنا. وهكذا، حصل على وظائف لأشخاص يتفرغون لهذا العمل. ورغم دخول اللواء رزق إلياس – كان يدير أيضاً مركز بحوث قريب من منطقة الفرع 225 – على الخط، فقد آثرت البقاء مع اللواء فؤاد لأسباب عامّة وخاصّة؛ دون أن ننسى أنه شكّل يوماً راعياً حقيقياً لثلّة من أهم مثقفي سوريا، بمن فيهم صادق العظم ومحمد شحرور و"الفلسطيني" الراحل إلياس شوفاني.
كان لعاملين الدور الأساسي في تدمير المشروع:
1 - افتقاد سوريا – للأسف – الطاقات البحثيّة الحقيقية؛ وكنت اشترطت أن هكذا عمل لا مجال فيه للواسطة أو العلاقات، خاصّة وأن عملي ضمن ما كان سيصبح مركزاً بحثيّاً لم يخرج قط عن إطار التطوّع المجّاني؛
2 – دخولي في صراع مفتوح وعلني مع نائب رئيس الجمهوريّة وقتها، عبد الحليم خدّام، وكان السبب الحقيقي وغير المعلن هو محاولة الرجل أسلمة حزب البعث على طريقة صدّام حسين؛ وقد انتهى الصراع، كما يعرف الجميع، بعملية خطف نفّذها بحقي كل من غازي كنعان وعبد الحليم خدّام. – وخرجت بعدها من كل العلاقات.
العام الماضي اتصل بي شخص من الناطقين بالعربيّة، والذي يعيش في كندا. كان الرجل وما زال قطعة تهذيب وأخلاق وثقافة. وكان العرض نشر بعض أعمالي المنشورة وغير المنشورة – وهذا ما كان. وكنت وقتها قد نشرت في إحدى الدور اللبنانية الجزء الأول من كتابي الضخم، فروقات المصاحف.
صار اتصالنا اليومي مثل جريدة الصباح، أمر لا بد منه؛ خاصة وأننا نفتقد ضمن الناطقين بالعربيّة هذه النوعية الجميلة من الناشر-الباحث المثقف بما لا يُحد.
اقترح الصديق الجميل أن نترجم كتابين إلى اللغة العربية؛ ووقع اختيارنا على عملين هما، أهل الذمة في صدر الإسلام؛ ويسوع في التلمود.
كي أكون واضحاً كالعادة؛ فقد كنت أرفض في دواخلي فكرة الترجمة، اللهم إلا إذا كانت ترجمة تحقيقية لكتاب بلغة قديمة، كما حصل معنا في "الرسالة اليمنية" لابن ميمون. لقد ساهمت شخصياً في مؤتمرات عديدة في الغرب، آخرها قبل أكثر من شهر، ولم أجد قط أن الغربيين يتفوقون علينا، خاصة في مسألة مقاربة قضايانا، إلا في نوعية المقاربة التي تصبغ نفسها باللون العلماني؛ من هنا، فقد ركّزت كل جهدي البحثي على أعمال مؤلّفة، وساهم في ذلك طبعاً النجاح غير العادي "لفروقات المصاحف".
بالمقابل، وفي استعراض سريع لعمل مشترك مع باحثين غربيين، أتذكّر عملي مع ثلاثة باحثين ألمان في كتابنا، "نيتشه والدين"، الذين تفاجأت شخصياً بضحالة معلوماتهم عن أهم فلاسفة ألمانيا – برأيي على الأقل – فحملت العمل كلّه على كاهلي، وأوقفت بعد ذلك فكرة عمل مماثل عن العظيم فويرباخ.
فرحت لفكرة الترجمة لأسباب أخرى. فقد عادت إلى أحلامي قصة مركز البحوث الذي يعنى بالمثاقفة بمعناها العلمي-الحيادي: وقد أثبتت الظروف التي نعيشها التسطح الثقافي الذي يعيشه مجتمعنا عموماً. كان الهدف هو اكتشاف مواهب شابّة في حقل الترجمة والبحوث، ومن ثم إطلاقها كي تحلّق دون مساعدة. خاصة وأن ذكرياتنا تمتلئ بالجراح والممانعة بسبب نوعية ما كنّا نقدّمه قبل ثلاثين سنة. وهكذا، تسلّمت الكتابين، اللذين عرض أحد الأصدقاء من الباحثين السياسيين وشاب هو هشام شامية ترجمتهما. الطرف الأول أعاد الكتاب بعد أكثر من شهرين، متذرعاً أن وقته لا يسمح؛ في حين طلبت من هشام التوقف عن إكمال كتاب، يسوع في التلمود، لأنه صعب للغاية كتجربة أولى. ولما كنت قد "ارتبطت" بكلمة شرف مع الصديق الناشر، فقد اعتزلت الناس والحياة حتى أكملت ترجمة العملين حيث تم نشرهما بعد ذلك. كانت المسألة سهلة بسبب معرفتي القديمة للغاية بالتلمود – ترجمت منه العابودا زارا ونشرتها، وترجمت بلا نشر الحغيغاه، إضافة إلى عملي على الموضوع قبل أكثر من ربع قرن في نص تولدوت يشو الذي أضاعه شارل أيوب وقتها – وكذلك نشري لمقالات حول مسألة أهل الذمة، خاصة ما كتبه ابن قيم الجوزية، الشافعي، وأبو موسى القاضي.
رغم كل شيء – الفكرة كانت بالنسبة لي أكثر من حلم؛ إلى درجة أني أطلقت على مكتبي الشخصي اسم، المركز الأكاديمي للبحوث – دمشق؛ إضافة إلى طلبي الشخصي أن يتم تقديمي بهذه الصفة في الجامعات الأمريكية التي حاضرت فيها مؤخراً وكذلك في وسائل الإعلام.
قال لي الصديق إنه يرغب بأن نترجم عملاً هو عبارة عن ندوة هامة عقدت في هولندا قبل سنوات قليلة، وتحمل عنوان إبراهيم. أعجبتني الفكرة وبعدها الكتاب، خاصّة وأني كنت قد عملت على أكثر من بحث حول هذه الشخصيّة، سيضاف ذلك إلى هذا الكتاب الموسوعة. وبدأ النشاط.
اتفقنا على استقطاب مجموعة من الشباب الراغب بالعمل البحثي. وهكذا، وبعد أن أعلنت عن ذلك على صفحات التواصل الاجتماعي، جاءني كثيرون، بعضهم قُبل بعد امتحان، والغالبية رُفضت. فكان أن ترجم الأستاذ هشام شامية كتاباً عن آلهات العرب، وترجمت شيرين فيّاض نصّاً عن دخول العرب لسوريا الكبرى، وتولّت السيدة سناء يازجي في فرنسا ترجمة عمل قريب من عمل هشام عن اللغة الفرنسية. – إضافة إلى شخصية رابعة تعمل اليوم في اللاذقية دون مزيد من التزام.
جاءت إلى المكتب وقدّمت نفسها على أنها إعلامية هامة، ولها ترجمات كثيرة عن اللغة الإنكليزية. ولأن عمرها لا يسمح بالاختبار ولأن كلامها يوحي بالثقة؛ فقد اتصلت بالصديق مباشرة واقترحت عليه أن نعطيها ملف الجنس والحركات النسوية. ووقع الاختيار مباشرة على كتاب كيشيا علي، الأخلاق الجنسيّة والإسلام.
كانت السيدة، كشخص، أكثر من رائعة؛ ولأول مرة ربما أشعر أن لي أختاً حقيقية في دمشق. بل ربما كانت الوحيدة التي سمحت لها بأن تحضّر لي طعاماً كانت تطبخه وتأتي به في عز الحر من بيتها إلى المكتب. باختصار، كانت إنسانة مذهلة. وهكذا، عملت بسرعة على كتابها فأنهته في وقت خيالي، وجاءت إلى المكتب تطلب نقوداً، وتصر على أن ما يمكن لنا أن ندفعه لها أقل بكثير مما اعتادت الحصول عليه.
طلبت منها فقط أن أقرأ العمل قبل أن أعطي الرأي النهائي. وهنا كانت الكارثة. فالعمل الذي لا يزال بحوزتي كان مفككاً وغير قابل للفهم على الإطلاق. اتصلت بالسيدة وطلبت منها تصحيح الوضع، وأظهرت لها أمثالة على مآخذي على العمل. ومن ثم قمت بإرسال النص إلى صديق يعمل معنا مدققاً لغوياً فكان رده أن العمل يستحيل نشره.
كان من المستحيل علي أخلاقياً على الأقل أن أرفض العمل. وبالفعل، فقد اتصلت بأحد خريجي الأدب الإنكليزي وطلبت منه أن يجلس مع السيدة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. لكن الشاب بعد أسبوع تقريباً اعتذر بالقول إن العمل كلّه مترجم بطريقة غوغل. وأنه خاصة في الصفحات المئة الأولى لم يبذل فيه أدنى جهد لتصحيح الأغلاط الغوغلية. ثم أوضح بالأدلة كيف أن أي محاولة لم تبذل لإعطاء النص صيغة مفهومة.
أسقط في يدي؛ خاصة وأن غلاف العمل قد تم تصميمه بل كنت قد بدأت أفكّر بطريقة للترويج الإعلامي للعمل. كان الحل هو أن أعيد ترجمته مع أن الموضوع غير ممتع بالنسبة لي. ذهبت إلى المنزل حيث أصوات القذائف ولا هاتف جوال ولا نت ولا أرضي. كانت الكارثة أنني عندما انتهيت من الفصول الخمسة الأولى في الكتاب، وكنت أقارن دائماً بالترجمة السابقة، أصبت بحالة من التوتر الشديد حين قرأت في تلك الترجمة أن الزواج العرفي هو حالة إعدام خارج نطاق المحاكم. فكان أن ضربت اللاب-توب بيدي، فذهب كل ما ترجمته – وكان لا بد أن أعيد. وهكذا، حتى أصبت بالإعياء الشديد.
أسوأ ما في الأمر [ الحق يقال إن الناشر طلب غض النظر عن ترجمة الكتاب] كان تخلّفي عن مؤتمر يعقد في اسطنبول دعيت إليه في أميركا. وكان مناسبة عالمية للقاء كثير من المهتمين بالشأن الإسلامي؛ هذا غير وقف علاقتي اليومية مع الأصدقاء في السويد [لا أدري ماذا سيقول الصديق إريك إركسون حين سيعرف ما حدث ] وأميركا [ماركوس ساوثوورث، صديق العمر، يعتقد أن عندي أزمة نفسية] هذا غير توأم الروح الناشر الباحث المثقف، وصديقي الرائع في أثينا. وهكذا، مر علي أسوأ شهر منذ عام 2004، وقت خطفني المدعوان إياهما.
عدت إلى المكتب كي أتواصل مع هشام الذي كان يساعدني في الهوامش. وكنت أعمل على فصل، أشمي ولا تنهكي، المتعلّق بختان الإناث، لأكتشف أن قص البظر مترجم في الترجمة المرفوضة، رفع غطاء محرّك السيارة. فكان أن أغلقت اللاب-توب الثاني بعنف، فطار الفصل السابع كما أعتقد.
الآن عدت إلى حياتي العادية...
غبت عن صفحات التواصل الإجتماعي في ظروف هامة جداً، أبرزها مؤتمر "المعارضة" في عاصمة الوهابية.
أرسل كثيرون حول هذا الانقطاع؛
إذا عرف السبب بطل العجب.
أعتذر للجميع، لكنها تجربة قاسية ... وعبرت!!