أهلا بكم في موقع الدكتور نبيل فياض
مقدمة كتاب مصحف علي
- تم إنشاءه بتاريخ 19 تشرين2/نوفمبر 2018
مقدّمة:
قبل إطلاق هذه السلسلة كان ثمة حديث مع واحدة من أهم الباحثين الألمان في عالم الاستشراق حول مدى أهمية سلسلة كهذه، والتي تهتمّ أساساً بالتاريخ النصّي للقرآن. كان ردّ الباحثة الألمانية الشهيرة المختصّة بعلوم القرآن، أن تلك السلسلة لا أهمية لها على الإطلاق لأن التراث الإسلامي، خاصة تلك المعلومات المتعلّقة بالجماعة الإسلامية الأولى، أي، النبي والصحابة والتابعين، لا يمكن الركون إليه بسبب بعد زمن المؤرِّخ عن زمن المؤَرّخ له؛ وهو من ثم تراث ينضح بالأكاذيب وبالروايات المفبركة سلفاً لغايات سياسية أو ما شابه. وتضيف الباحثة، إن ما يمكننا الركون إليه في كلّ هذا الجبل الضخم من النصوص التراثية الإسلامية هو القرآن فحسب.
هذا الكلام لا غبار عليه. لكن منذ أن قدّم آرثر جفري أعماله المتعلّقة بالقرآن (القرآن ككتاب مقدّس؛ مواد من أجل التاريخ النصّي للقرآن؛ الألفاظ الأجنبية في القرآن) وقدّم جون إدوارد وانسبرو عمله البارز (دراسات قرآنية: مراجع وطرائق تفسير النص المقدّس)، لم يعد يُنظر إلى القرآن في عالم البحث الغربي كما كان يُنظر إليه سابقاً.
لا نعتقد على الإطلاق أنّ القرآن كان يُنظر إليه من قبل الجماعة الإسلاميّة الأولى كما تنظر إليه عامّة المسلمين اليوم. ففي كتاب النصّ والاجتهاد للباحث الإمامي المعروف، عبد الحسين شرف الدين، كانت ثمة محاولة لإثبات أن أبرز الصحابة، مثل أبي بكر وعمر وعائشة وخالد بن الوليد، خالفوا بالقول والفعل نصوصاً ثابتة الدلالة من القرآن. وإذا كان هدف شرف الدين الواضح الطعن بصدقية هؤلاء الصحابة ضمن الصراع السنّي-الشيعي الأبدي كما يبدو، فإننا، بالمقابل، نستنتج على نحو غير مباشر، أن هذا النص الأغرب في قدسيته عند أصحابه بين كلّ أتباع الديانات، لم يكن ينظر إليه بتلك القداسة من قبل الجماعة الإسلاميّة الأولى عموماً؛ ولو كان الاعتقاد راسخاً عند هؤلاء – كما هو الحال عليه الآن في الأوساط الإسلاميّة البعيدة عن روح البحث الحقيقي – بأن القرآن كتاب سماوي منزل غير قابل للتحريف أو التبديل، لكانوا التزموا بتعاليمه ونصوصه كما وردت على لسان النبي. والحقيقة أنّ هذه اللاقداسة المفزعة التي أحاطت بالقرآن زمن الجماعة الأولى، امتدّت حتى زمن المفسّرين المتأخرين: فها هم القرطبي والزمخشري من الطرف السني، والكليني والطبرسي من الطرف الشيعي، لا يتردّدون على الإطلاق في الكلام عن قراءات لا تعدّ ولا تحصى تفصيلية تختلف بالكامل، نصّاً، عن مصحف عثمان الذي فُرض على الجميع بقوة السلطة. – دون أن نغفل ما أورده البخاري في صحيحه عن تشوهات طرأت على القرآن في صيرورة جمعه وتوليفه.
بعودة إلى آرثر جفري، المتهم من قبل المسلمين عموماً بالتعصب المسيحي ضد الإسلام، فقد شكّلت أعماله، خاصّة مواد من أجل التاريخ النصّي للقرآن، نقلة هامة للغاية في المقاربة النقديّة لكتاب المسلمين المقدّس. لقد أوضحنا على الدوام في كلّ أجزاء هذه السلسلة أننا أخذنا فكرة هذه البحوث من هذا العمل بالذات، أي، مواد من أجل التاريخ النصّي للقرآن. كذلك فنحن نقدّم مع كل فقرة من هذه السلسلة ترجمة لما كُتب عنها في عمل جفري. بمعنى أننا في مقاربتنا لمصحف عبد الله بن مسعود قدّمنا كل ما كتبه عنه جفري في كتابه المذكور أعلاه؛ وكذلك في مقاربتنا لمصحفي أبي وعلي. مع ذلك، فإن لنا مآخذ كثيرة على منهج جفري، الذي لا نعتقد إلا أنه كان يعمل ضمن فريق بحث لا بأس به:
1- لم يسمح جفري كل نصوص التراث الإسلامي التي تتضمن كثيراً من الفروقات؛ وكان الأجدى به أن يأخذ كلّ تلك النصوص بعين الاعتبار لأنه كان يعمل "من منظور الدوامية"؛
2- لم يأخذ جفري بعين الاعتبار المصادر الشيعية، خاصة الإمامية منها؛ وفي هذا إهمال غير مقبول لباحث بمكانة جفري لجزء من التراث الإسلامي لا يقلّ أهمية وشأناً عن نظيره السنّي، بل إن كثيراً من الفروقات في التراث الإمامي تتقاطع للغاية مع نظيراتها في تراث أهل السنّة والجماعة؛
3- الأسوأ، برأينا، أنه رغم كل الفروقات التي جمعها بجهد هائل الباحث الأسترالي ومن ثم نشرها، خاصّة تلك التي تصادفنا في بحثه المتعلّق بابن مسعود وأبي بن كعب، فإن ذلك البحث هو أقرب ما يكون إلى العبثية المعرفيّة لأنه جاء خالياً من المراجع. فقد قدّم جفري عشرات الصفحات ومئات القراءات المخالفة لمصحف عثمان دون أن يلحق ذلك بمرجع أو مصدر يوثّق لما كتب.
لقد حاول وانسبرو قلب الصورة رأساً على عقب. فقال، ضمن أشياء كثيرة، إن محمداً، نبي المسلمين، شخصيّة ميثولوجية، وإن القرآن كُتب في القرن الثامن للميلاد، وإنه كُتِب في الكوفة لا في المدينة. ورغم الكم الكبير من المراجع التي يوردها وانسبرو في عمله الهام، فإنّ الإقناع يبدو مجافياً له – برأينا على الأقل – في إطروحاته الراديكالية الكثيرة. وقد أوردت الصديقة الباحثة الراحلة باتريشيا كرونه نصوصاً كثيرة غير عربية أو إسلامية كُتبت زمن الجماعة الإسلامية الأولى يذكر بعضها نبي الإسلام بالاسم. وحين تتقاطع الأدلة الداخلية [الأدلة من التراث الإسلامي] مع الأدلة الخارجية [أدلة غير العرب أو المسلمين من حقبة بداية الإسلام] في التأكيد على وجود شخص اسمه محمد، فإن ذلك يرجح وجوده على عدم وجوده. أما حديثه عن القرآن، فذلك يحتاج إلى عمل كامل.
بعودة إلى حديث المستشرقة الألمانية الصديقة بشأن التراث الإسلامي غير القرآني، وأنّ هذا الجزء من التراث لا يمكن الاعتماد عليه كباحثين لأنه ينضح بالأكاذيب، فإن ثمة أسئلة تطرح ذواتها بقوة على مجتمع الباحثين النخبوي لا بد من التقصّي عن إجابات لها:
1 – دون أدنى شك، هنالك مشكلة ذات طابع عالمي يثيرها التطرّف الإسلامي؛ وهؤلاء المتطرفون لا أعتقد أنهم يهتمون كثيراً لقراءة ما كتبه آرثر جفري أو جون وانسبرو أو أنغليكا نويفرت أو ميشائيل ماركس! بل إنّ المتطرّفين الإسلاميين يعتمدون في بنائهم المعرفي على التراث الإسلامي غير القرآني أكثر من اعتمادهم على القرآن ذاته. – المشكلة الحالية ليست مع الباحثين الغربيين أو مع المسلمين المعتدلين أو المسلمين العلمانيين، بل مع هؤلاء المتطرفين الإسلاميين الذين لا سبيل للحوار معهم إلا من تراثهم بالذات.
2 – إن كثيراً من أساسيات المسلمين مستمدّة من التراث الإسلامي غير القرآني، كالصلاة على سبيل المثال لا الحصر؛ فكيف يمكن مناقشة هذه الأساسيات إذا رفضنا الاعتراف بأي شكل للصدقية فيها؟
3 – إن كثيراً من التراث الإسلامي غير القرآني المرتبط بالقرآن أساساً، كالقرطبي والزمخشري والسياري على سبيل المثال لا الحصر، يبدو مساعداً للغاية في العمل البحثي لأنه حيادي فعلياً في مقاربة النص الإسلامي المقدّس؛ ففي هذه الأعمال وأمثالها، فيما يخصّ عملنا البحثي الحالي، تحتوي قراءات كثيرة للغاية منسوبة لأكابر الصحابة تخالف نصّاً مقابلاتها في المصحف العثماني. ونحن نعتقد أنّ علّامة كالقرطبي أكثر حيادية ومنطقية من الغالبية الساحقة ممن يسمّون أنفسهم اليوم، "علماء مسلمون".
مدخل إلى نظرية بحثية جديدة:
مما لا شكّ فيه أن روايات كثيرة كانت متداولة في صدر الإسلام وما بعد؛ فما هو معيار "العلماء" في قبول رواية ورفض أخرى؟ وكيف أمكن لشخص كالبخاري، أن يقبل في صحيحه، الذي يعتبر عند أهل السنّة والجماعة أصح الكتب بعد القرآن، قصّة متهالكة كتلك التي تحكي عن القردة التي زنت[1]؟ إنه علم الرجال أو الجرح والتعديل: فما معنى هذا الفرع من المعارف الإسلاميّة، الذي يبدو لنا إسلامياً على وجه الحصر؟
علم الرجال أو علم رجال الحديث ويسمى أيضاً علم الجرح والتعديل أو علم الجرح والعدالة هو أحد فروع علم الحديث، يبحث فیه عن أحوال رواة الحديث من حيث اتصافهم بشرائط قبول رواياتهم أو عدمه، فهو علم يُبحث فيه عن جرح الرواة وتعديلهم بألفاظ مخصوصة وعن مراتب تلك الألفاظ. وقيل في تعريفه أيضاً: هو علم وضع لتشخيص رواة الحديث، ذاتاً ووصفاً، ومدحاً وقدحاً؛ وقيل أيضا: هو علم يدرس سير رواة الأحاديث النبوية ليتم الحكم على سندها إذا كانت صحيحة أو حسنة أو ضعيفة أو موضوعة.
إذن، إن الجرح والتعديل هو العلم الذي بيحث في أحوال الرواة من حيث قبول رواياتهم أو ردّها. وهو من أهم أنواع علوم الحديث إسلاميّاً وأعظمها شأناً وأبعدها أثراً، إذ به يتميز الصحيح من السقيم، والمقبول من المردود، لما يترتب على مراتب كل من الجرح والتعديل من أحكام مختلفة.
فما هو التعديل؟ التعديل وهو في الاصطلاح: وصف الراوي بالعدالة أي ما يقتضي قبول روايته. فهو من لم يظهر في أمر دينه ومروءته ما يخل بهما، فيقبل لذلك خبره وشهادته إذا توفرت فيه شروط أهلية الأداء. والتعديل وصف الراوي بصفات تزكيه فتظهر عدالته ويقبل خبره. والتعديل لغة من المصدر عدل، قال في لسان العرب: العدالة ما قام في النفوس أنه مستقيم وهو ضد الجور، والعدل من الناس المرضي.
والجرح؟ لغةً: مصدر من جرحه يجرحه، إذا أحدث في بدنه جرحاً يسمح بسيلان الدم منه. ويقال : جرح الحاكم وغيره الشاهد على ما تسقط به عدالته من كذب وغيره.
اصطلاحاً: هو ظهور وصف في الرواي يثلم عدالته أو يخل بحفظه وضبطه، مما يترتب عليه سقوط روايته أو ضعفها وردّها. والتجريح وصف الرواي بصفات تقتضي تضعيف روايته أو عدم قبولها.
مشروعية الجرح والتعديل من منظور إسلامي:
دلت قواعد الشريعة العامة على وجوب حفظها على المسلمين، وبيان أحوال الرواة سبيل قويم لحفظ السنة. جاء في القرآن: "ياأيها الذين آمنوا إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين"؛ وورد أيضاً: "استشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونوا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء"، والمقصود بالمرضي من الشهداء من ترضون دينه وأمانته، وليس نقل الحديث وروايته بأقل من الشهادة، لهذا لا يقبل الحديث إلا من الثقات. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيينة بن حصن رضي الله عنه، حين استأذن للدخول عليه: "بئس أخو العشيرة"، فهذا دليل على مشروعية الجرح. وقال (ص) عن خالد بن الوليد (رض): "نعم عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد، سيف من سيوف الله، سله الله عز وجل على الكفار والمنافقين"، فهذا دليل على مشروعية التعديل.
ما الذي يثبت أن المصدر عدل؟
إنها عبارة عن خمسة أمور، واعتبرها البعض شروطاً، متى تحققت في الرجل كان عدلاً، أو يقال لابد من تحققها في العدل، وهي:
الإسلام؛ البلوغ؛ العقل؛ التقوى، وهي اجتناب الكبائر، وترك الإصرار على الصغائر؛ الاتصاف بالمروءة.
قال الحاكم: أصل عدالة المحدث أن يكون مسلماً لا يدعو إلى بدعة ولا يعلن من أنواع المعاصي ما تسقط عدالته، فإن كان مع ذلك حافظاً لحديثه فهي أرفع درجات المحدثين.
وقال الغزالي في المستصفى: العدالة في الرواية والشهادة عبارة عن استقامة السيرة في الدين ويرجع حاصلها إلى هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعاً حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه فلا ثقة بقول من لا يخاف الله تعالى خوفاً وازعاً عن الكذب.
تعارض الجرح والتعديل:
قد تتعارض أقوال العلماء في تعديل راوٍ واحد وتجريحه، فيجرحه بعضهم ويعدله آخرون، وحينئذ لا بد من البحث لمعرفة حقيقة ذلك. فقد يكون بعضهم عرفه بفسق قديم منه فيجرحه، ثم تاب وعلمت توبته لمن عدله، فلا يكون هناك تعارض بين القولين. وقد يعرف بسوء حفظ عن شيخ لم يكتب عنه لاعتماده على ذاكرته، في حين أنه موثوق به، حافظ عن غير هذا الشيخ لاعتماده على كتبه مثلاً، فلا يكون هناك تعارض بين ذاك الجرح وهذا التوثيق. أما اذا لم يعلم أي من هذه الأمور ولم يمكن التوفيق فللعلماء في هذا ثلاثة أقوال:
القول الأول
ذهب إلى هذا القول المحدثون المتقدمون والمتأخرون وهو تقديم الجرح على التعديل؛ ولو كان المعدلون أكثر من الجارحين، لأنّ الجارح اطلع على ما لم يطلع عليه المعدل، وهو قول جمهور أهل العلم.
القول الثاني
يقدّم التعديل على الجرح إذا كان المعدلون أكثر من الجارحين، لأن كثرة المعدلين تقوي حالهم، رد هذا القول لان المعدلين وإن كثروا لا يخبرون بما يرد قول الجارحين.
القول الثالث
لا يترحج أحدهما على الاخر إلا بمرجح، أي يتوقف عن العمل بالقولين حتى نطلع على مرجح لأحدهما.
هذه، باختصار، قصّة الجرح والتعديل أو علم الرجال، الذي يأخذ حيّزاً كبيراً من تفكير السنّة والشيعة على حدّ سواء. لكن هذه القصّة تبدو متهالكة للغاية بحيث أنها لم تعد صالحة لعالمنا الحالي الذي تميّز للغاية بروحه النقدية. وهنا لا بد من إيراد الملاحظات التالية:
1 – رغم كل وسائط الاتصال والرقابة المعروفة عن زمننا الحاضر، فإن حادثة بعينها تتناقض فيها الآراء والشواهد إلى حدّ التعارض. فما بالك بمجتمع بدائي كُتبت معظم نصوصه الهامة في حقبة بعيدة زمانياً ومكانياً عن زمن ومكان الأشخاص الذين تناولتهم؟
2 – هل تكفي الشروط الخمسة التي أوردناها سابقاً، أي، الإسلام؛ البلوغ؛ العقل؛ التقوى، وهي اجتناب الكبائر، وترك الإصرار على الصغائر؛ الاتصاف بالمروءة، لإثبات أن هذا الشخص ثقة وذاك الآخر غير أهل للثقة؟ وكيف لنا التأكّد من أن هذه الصفات تنطبق على راو بعينه، في مجتمع لا يخلو من النفاق المشرّع دينياً، مثل مسألة المؤلّفة قلوبهم؟
3 – إن شخصاً يعتبر رمزاَ للصدقية والثقة كأبي هريرة، هو اليوم موضع نقد شديد بسبب أحاديثه المنافية للمنطق أو تلك التي تعتبر وليدة انتماء سياسي بعينه.
4 – يبدو الاهتمام بشخص الراوية دون التركيز على صدقية الرواية أمراً يدعو إلى الاستهجان. ينسب أبو هريرة للنبي قوله : «إنَّ الله أذن لي أن أحدّث عن ديك رجلاه في الأرض وعنقه مثبتة تحت العرش، وهو يقول : سبحانك ما أعظم شأنك»[2]؛ أو: حديث غريب، ينسبه أبو هريرة للنبي، ويقول: «إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين»[3]؛ بغض النظر عن حديث القردة الزانية الذي أوردناه آنفاً والذي يناقض أبسط معطيات المنطق.
5 – حين يُضرب خالد بن الوليد مثلاً في التعديل عبر النبي بالذات، كما أوردنا من قبل، فإن هذا يطرح أسئلة كثيرة حول مشروعية هذا التعديل الذي يؤكّده مواقف للنبي من سلوك لخالد يتنافى مع الأخلاقيات المحمدية. من ذلك، مثلاً، الحديث النبوي المتعلّق بقصة بني جذيمة ودور خالد هناك: فبعد فتح مكة أرسل النبي محمد الصحابي خالد بن الوليد في سرية إلى بني جذيمة من قبيلة بني كنانة داعيا إلى الْإِسْلَام ولم يبعثه مقاتلاً، فخرج فِي ثلاثمائة وخمسين رجلا مِن المهاجرين والأنصار وبني سليم فانتهى إليهم خالد، فَقَالَ: ما أنتم ؟ قَالُوا : مسلمون قد صلينا وصدقنا بمحمد وبنينا المساجد فِي ساحاتنا وأذنا فيها! قَالَ : فما بال السلاح عليكم؟ فقالوا : إن بيننا وبين قوم مِن العرب عداوة فخفنا أن تكونوا هُم فأخذنا السلاح! قَالَ : فضعوا السلاح! قَالَ: فوضعوه، فَقَالَ لهم: استأسروا، فاستأسر القوم، فأمر بعضهم فكتف بعضاً وفرقهم فِي أصحابه، فلما كَانَ فِي السحر نادى خالد: مِن كَانَ معه أسير فليدافه! والمدافة الإجهاز عَلَيْهِ بالسيف، فأما بنو سليم فقتلوا مِن كَانَ فِي أيديهم - وكانت بين سليم وكنانة عداوة في الجاهلية، وأما المهاجرون والأنصار فأرسلوا أساراهم ولم يقتلوهم، فبلغ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما صنع خالد، فَقَالَ: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد! وبعث عَلِيّ بْن أَبِي طالب فودى لهم قتلاهم وما ذهب منهم ثُمَّ انصرف إلى رَسُول اللَّهِ فأخبره.[4] فكيف يمكن أن نوفق بين براءة النبي من أفعال خالد وقوله الذي أوردناه سابقاً، "نعم عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد، سيف من سيوف الله، سله الله عز وجل على الكفار والمنافقين".
6 – الدور الأهم للتوجه السياسي-اللاهوتي-الطائفي في مسألة الجرح والتعديل. فمن الواضح أن رموز السنّة الذين يعتبرون نماذج للعدالية عند أهل السنّة والجماعة، ربما يعتبرون خارجين عن الدين عند الشيعة الإمامية؛ والعكس صحيح.
إذن، إن علم الرجال برمته بحاجة ماسّة لإنقاذه من أيدي علماء الحديث؛ وإن الجرح والتعديل بحاجة إلى جرح وتعديل جديد يتناسب وروح العصر وأسس العقلانية. ومن غير المنطقي أن تظل الابستمولوجيا الإسلامية أسيرة أفكار انتهى مفعولها زمنياً لأننا لا نرغب بالتغيير.
كيف يصنّف سادة الجرح والتعديل الروايات؟ وفق الأهواء. فما يتناسب مع مفاهيمنا المسبقة، مع آرائنا المصنوعة سلفاً، يرجح عدالته. والعكس صحيح. لذلك تسقط كلّ معايير العقلانية والحيادية إذا تعارض النص مع مخزوننا الفكري العقائدي.
[1] ) النص: حدثنا أبو حامد بن جبلة ، ثنا محمد بن إسحاق ، ثنا رزق الله بن موسى ، ثنا شبابة ، ثنا عبد الملك بن مسلم ، عن عيسى بن حطان ، قال : دخلت مسجد الكوفة ، فإذا أنا بعمرو بن ميمون الأودي ، جالسا وعنده الناس ، فقال رجل من القوم : حدثنا بأعجب شيء في الجاهلية ، قال : بينما أنا في حرث لأهل اليمن ، إذ رأيت قرودا قد اجتمعن ، فرأيت قردا أو قردة اضطجعا ، فأدخلت القردة يدها تحت عنق القرد ، ثم اعتنقا ، إذ جاء قرد آخر فغمزها ، فرفعت رأسها فنظرت إليه ، فسلت يدها من تحت رأس القرد ، ثم مضيا غير بعيد فواقعها وأنا أنظر إليه ، ثم رجعت القردة إلى مكانها ، فذهبت لتدخل يدها تحت عنق القرد فانتبه ، فقام إليها فشم دبرها فصرخ ، فاجتمعت إليه القرود ، قال : فجعل يشير إليها وإليه ، قال : فتفرقوا ، فلم ألبث أن جيء بذلك القرد أعرفه بعينه ، قال : فأخذوهما فأتوا بهما موضعا كثير الرمل ، فحفروا لهما حفرة ، ثم رجموهما حتى قتلوهما ، قال : فوالله لقد رأيت الرجم قبل أن يبعث الله محمدا (ص).
الرابط:
http://www.sonnhonline.com/Hadith.aspx?HadithID=564338
[2] ) نهاية الأرب للنويري، 1: 220.
[3] ) البخاري، 115:1.
[4] ) راجع خبر سرية بني جذيمة في طبقات ابن سعد.